بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه
وبعد ...
الإخوة الكرام : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن القرآن الكريم دقيق في اختيار مفرداته واستعمال مصطلحاته ... وكلما أمعنا الفكر في أسرار الألفاظ عند استعمالها في أساليب القرآن الكريم ، ودققنا النظر فيها في آيات الذكر الحكيم ، واستوفينا الكشف عنها في التعبير القرآني وقعنا على أسرار عظيمة ... ووجدنا لطائف عجيبة ... واستكمالا لما قد بدأته نعيش الآن مع سر من هذه الأسرار واللطائف والعجائب مع كلمات ثلاث هي : ختم – طبع – ربط .
وهذه الكلمات الثلاث استعملها القرآن للدلالة على معان تتوارد على محل واحد هو ( القلب ) مع مجيء بعضها في سياق الحديث عن غير القلب وهي السمع والأفواه .
وللقرآن الكريم منهج فريد في استعمال كل واحدة منها...
وأبدأ بحول الله وقوته وتوفيقه ومدده في هذه الحلقة بـ ( خـتـم ) قبل أختيها : طــبع ـ وربط .
ومنهج القرآن قائم على التفرقة بين صورها الفعلية وصورها الاسمية ...
فصورها الفعلية : ( خـتـم – يـخـتـم – نـخـتـم ) قد استعملها القرآن في مواطن الذم والعقاب المؤلم إلا في موضع واحد فقط ...
وإليكم الآيات : قال الله تعالى حكاية عن الكافرين :{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [6] سورة البقرة ثم قال بعدها مباشرة { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [7] } سورة البقرة
مما يدل على أن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم عقابا لهم ...
وهكذا بقية الآيات لا تخلو من عقاب وذم
قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية
وقال أيضا :{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (65) سورة يــس
بـيـد أن موضعا واحدا قد اختلف في معناه وهو قول الله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (24) سورة الشورى
والمعنى الصواب ما جاء في كتاب (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ) لابن عطية الأندلسي فقد قال في معنى ( فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ )معناه : في قول قتادة وفرقة من المفسرين .. ينسيك القرآن . والمراد : الرد على مقالة الكفار وبين إبطالها . كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر – إن شاء – على أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ...
والمقصود من هذا الأسلوب وأمثاله : تبرئة صاحب الدعوة – صلى الله عليه وسلم – مما يرميه به منكرو الرسالة ... ولهذا نظائر في القرآن منها :
قوله تعالى : {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} (86) سورة الإسراء
وقوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [73] وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً[74] إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا[75] } سورة الإسراء
وقوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ[44] لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ[45] ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [46] فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)} سورة الحاقة
وهذه كلها جزاءات فرضية رتبت على أمور لم تقع منه – صلى الله عليه وسلم - ...
ويمكن أن أقول : إن كلمة ختم جاءت كجزاءات حتمية ومنطقية لمن كفر ... كما جاءت في معرض الذم والعقاب ...
أما ورودها في جانبه – صلى الله عليه وسلم – فقد جاءت كجزاء فرضي يُرَتّب على أمر لم يقع منه ... وليس في ذلك ذم ولا عقاب حيث إن الفعل ( يختم ...) قد علق على مشيئة الله .. والله تعالى أعلى وأعلم .
هذا معنى ختم في صورها الفعلية ...
أما صورها الاسمية فهي : ( خاتَـم – ومختوم – وختامه ) .
وقد استعملها القرآن في مواضع المدح والجزاء الحسن
1-ففي سورة الأحزاب جاء قول الله تعالى : {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (40) سورة الأحزاب
فلفظ خاتَم هنا في ذروة المدح والثناء العطر على رسولنا – صلى الله عليه وسلم- فهو الرسول النبي المصطفى لجميع العباد من لدن بعثته إلى قيام الساعة ..
2- وآيتا ( المطففين ) : { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ [25] خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ [26] } سورة المطففين
ففي هاتين الآيتين إظهار لتفضل الله على عباده الصالحين ... وإشادة بالجزاء الحسن الذي وعدهم الله به .
وفي الختام لعل البعض يتساءل ما سر اختصاص الفعل بالذم والعقاب دون الاسم ؟
والجواب : من المعلوم أن الفعل له ثلاث دلالات هي :
أ-دلالاته على الحدث من حيث معناه .
ب-دلالاته على الزمن من حيث الصياغة .
ج-دلالاته على الفاعل التزاما .
لكن الاسم أو الصفات المشتقة والمصدر يشترك مع الفعل في دلالة واحدة هي : الحدث .
فالفعل أكثر مرونة من الاسم لدورانه مع الزمن ماضيا وحاضرا ومستقبلا وصالح للتعليق كذلك كقوله تعالى :( فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) فقد علق يختم بمشيئة الله والاسم بمنأى عن ذلك .
ولما كان الفعل بهذه المرونة والمطاوعة صلح للإخبار عن الماضي والحاضر والمستقبل كما مر في الآيات ... لذلك اختص بمقام الذم والعقاب وملاحقة الأحوال التي حدثت أو هي حادثة أو ستحدث .
أما الاسم : خاتم – مختوم – ختام فلتجرده عن الزمن صارت دلالته ثابتة : فرسولنا –صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين في كل وقت وليس خاصا بوقت دون آخر ، ولا في ختمه للنبيين تجدد وانقطاع ... كما أن شراب أهل الجنة تحقق الختم بالمسك عليه وثبت فهو دائما مختوم وختامه مسك ...
وإلى حلقة قادمة للحديث عن طبع ...والله تعالى أعلى وأعلم ...
منقوول